- تـمـهـيـد :
لقد ظهرت الحركة الوطنية الجزائرية قبل الحرب العالمية الثانية واتضحت أكثر بعدها. و كانت معالمها متحددة في عدة إتجاهات سياسية هي :
أ - إتجاه المساواة :
مثله في البدايـة الأمير خالد، ثم تطور إلى المطالبة بالتجنيس والإدماج و هي تجربة ابن جلول و فرحات عباس و كانت هذه التجربة فاشلة بسبب رفض كل من الجزائريين و الفرنسيين.
ب - الإتجاه الإستقلالي :
يمثله حزب الشعب الجزائري الذي تأسس في مارس 1937 برئاسة مصالي الحاج و هو امتداد لنجم شمال افريقيا. و قد لعب هذا الحزب الدور الكبير و الفعال في الحركة الوطنية الجزائرية.
جـ – الإتجاه الإصلاحي :
تبلور هذا الإتجاه على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس و أنصاره، حيث أسسوا في ماي 1931 جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بهدف الدفاع عن شخصية الجزائر وعروبتها.
هذه أهـم الإتـجاهـات السياسية التي ميزت الحركة الوطنية في فترة الحربين العالميتين، و التي تتبلور أكثر بعد الحرب العالمية الثانية كما سترى فيما بعد.
I - مـوقـف فـرنـسـا مـن الجـزائـريـيـن :
عاشت الجزائر أوضاعا سياسية، إقتصادية و إجتماعية صعبة، أفرزتها الانعكاسات السلبية للحرب على فرنسا، و توالت المحن و النكبات على البلاد و العباد. فقل الانتاج بسبب قلة الأيدي العاملة التي صدرت و سخرت لأغراض الحرب في أوربا.
حُلت الأحزاب السياسية خاصة حزب الشعب و وضعت زعمائه في السجون لأنه رفض الاعلان عن تأييد فرنسا في الحرب و إتهم بالتحريض على العصيان وضَيق الخناق على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. كما أظهرت محبتها الخادعة للجزائريين و طلبت منهم الاقبال على التجنيد و التطوع في الجيش الفرنسي من أجل القضاء على ألمانيا ثم إنصافهم و النظر في مطالبهم بعد نهاية الحرب.
II – مـوقـف الحـركـة الـوطـنـيـة من فـرنـسـا :
عجلت أحداث الحرب بإنتشار الوعي القومي بين أفراد المجتمع الجزائري فإنعقد اجتماع 03 . 02 . 1943 جمع أنصار حزب الشعب، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و النواب و تناقشوا حول مستقبل الجزائر و إتفقوا على اصدار بيان يقدمونه للحلفاء و الفرنسيين و شارك في وضعه، فرحات عباس، الأستاذ بومنجل، الدكتور تامزالي، الامين الدباغين، الشيخ العربي التبسي، توفيق المدني و غيرهم و كلف فرحات عباس بتحرير ما اتفق عليه من أفكار.
و يحتوي البيان على :
* إدانة الاستعمار و القضاء عليه و تحريم إستغلال شعب من طرف شعب آخر و تحريم إدماجه و ضمه إليه عنوة.
* تطبيق تقرير المصير لجميع الشعوب الصغيرة منها و الكبيرة.
* منح الجزائريين دستورا خاصا يتضمن :
- حرية جميع السكان و المساواة بينهم دون ميز ديني أو جنسي.
- إلغاء الاقطاعية الفلاحية و ذلك بإصلاح زراعي واسع النطاق يضمن الرفاهية و الرخاء لكافة الجماهير الفلاحية.
- الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية بجانب اللغة الفرنسية.
- حرية الصحافة و حق الاجتماع.
- حرية الدين لجميع السكان و تطبيق قانون فصل الدين الاسلامي عن الدولة الاستعمارية.
- التعليم المجاني و الاجباري لجميع الاطفال.
- مشاركة المسلمين في حكم بلادهم مشاركة فعلية.
- إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسين من جميع الأحزاب.
ما يلاحظ على البيان أنه يمثل تحولا هاما في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية.
III - بـيـان فـيـفـري و الـمـواقـف المخـتـلـفـة :
1 – موقف فرنسا :
قام وفد جزائري بتسليم نص البيان إلى الوالي العام " مارسيل بيرطون " ونسخة إلى ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا و روسيا و بعثوا نسخا أخرى إلى لندن و الجنرال ديغول و حكومة القاهرة و وعد "بيرطون" الوفد بدراسة البيان واعتباره أساس لدستور الجزائر المقبل، لكن " الجنرال كاترو " الذي خلف بيرطون في منصب الوالي العام في جوان 1943 رفض أن يلتزم بتعهدات من سبقه، إلا أنه بعد ذلك أعاد النظر في الموضوع فأعد إجراءات أعلنها الجنرال ديغول نفسه بقسنطينة يوم 12 . 09 . 1943 و صيغت بعد ذلك، و صدرت في مرسوم 7 مارس 1944 و التي تضمنت منح المُوَاطنة الفرنسية للنخبة الجزائرية دون التخلي عن أحوالهم الشخصية، تأجيل النظر في مصير الجزائر إلى ما بعد الحرب.
2 – موقف الجزائريين :
أيدت أغلب الأحزاب و الشخصيات محتوى البيان الجزائري و لكن أمام رفض فرنسا له، و على إثر صدور مرسوم 7 مارس 1944 قام فرحات عباس و بعض رفقائه بتأسيس حركة جديدة أسموها : " أحباب البيان و الحرية " يوم 14 مارس 1944 عملوا من خلالها على تجنيد الشعب حول الدفاع عن المطالب التي وردت في البيان.
3 – موقف الحلفاء :
عندما سلمت نسخة من البيان للحلفاء في أفريل 1943 كانت إجابتهم، أنهم لا يملكون حق التدخل و أنهم حضروا إلى الجزائر لمحاربة قوات المحور.
IV – إنـتـفـاضـة 8 مـاي 1945 و انـعـكـاسـاتـهـا :
كانت هذه أول مرة ترى فيها حكومة فرنسا اجتماع زعماء الجزائر على اتجاه معين و على مطالب محددة و شعرت بخطورة الموقف، و صممت على إظهار قوتها والإنتقام من الشعب الجزائري، وانتهزت الفرصة التي سنحت مع مظاهرات 8 ماي 1945 و حاولت إعطاء درس للجزائريين ينسيهم المطالبة بالحرية و الإستقلال.
1 - أسباب الإنتفاضة :
أ - إنشاء أحباب البيان و الحرية و ما تلا ذلك من نشاط و دعاية و يقظة مما أدى إلى اتصالات سرية و علانية بين قادة الحركة الوطنية بهدف تكوين جبهة موحدة للوصول إلى تحقيق أهداف البيان. و هذا النشاط أغضب الفرنسيين و أثار تخوفاتهم. فقد صرح الجنرال " كاترو " الحاكم العام للجزائر ساعة تأليف "أحباب البيان والحرية" "يجب القضاء على هذه العاصفة ".
ب - الأزمة الإقتصادية التي كانت تعاني منها الجزائر و التي زادت من إشعال حماس الحركة الوطنية و كره الفرنسيين.
جـ – عودة الجنود ( الفرنسيين ) الجزائريين الذين ساهموا في تحرير فرنسا و أوربا و مقارنتهم بما شاهدوه في أوربا و ما جرى في الجزائر.
د - ميلاد الجامعة العربية و مساعدتها للحركة الوطنية.
هـ – أحداث سوريا و لبنان 1945 التي دفعت فرنسا إلى الإستجابة لمطالبهم في الإستقلال.
نتيجة لهذه الأسباب، فقد اجتمع بعض زعماء الحركة الوطنية في نهاية شهر أفريل 1945 و إتفقوا على القيام بمظاهرات عامة يوم احتفال الحلفاء بالإنتصار على النازية بهدف إظهار قوة الحركة الوطنية و وعي الشعب الجزائري بمطالبه و قد اشتدت العاصفة يوم 08 ماي 1945، و عمت المظاهرات جميع المدن الجزائر ية و حملت الأعلام و كتبت شعارات تطالب بالإستقلال و سقوط الإستعمار و إطلاق سراح المعتقلين. إغتنمت الإدارة الفرنسية هذه المناسبة لتنفيذ مخططها والإنتقام من الجزائريين فما كان من رجال الأمن و المستوطنين إلا أن فتحوا النيران على المتظاهرين ومن ثَم تأزم الوضع بسرعة و كانت المجزرة الرهيبة التي دامت أكثر من أسبوع و راح ضحيتها أكثر من 45 ألف قتيل.
2 - انعكاسات الانتفاضة :
أ- الانعكاسات السلبية :
أسفرت الإنتفاضة عن خسائر هامة في صفوف الوطنيين، و ما نتج عن ذلك من تقتيل جماعي و تدمير للقـرى و اعتقالات.
* يقول توفيق المدني : " كانت المصفحات الفرنسية تسير صفا فتدمر القرى بما فيها من رجال و نساء و أطفال ... ".
* و يقول إيف لاكوست : " لقد أبيد 45000 جزائري بين رجل و إمرأة وطفل، و لقد أحرق البعض بعد رشهم بالبنزين، و ألقي البعـض الآخر في أفران الجبس، وألقي القبض على البعض الآخر بحيث وصل عدد الموقوفين حوالي 5000 نسمة ".
* و جاء في الجريدة الرسمية الفرنسية : " وزع السلاح على جميع الأوربيين إلى حد أن النساء كن مسلحات "، و تضيف الجريدة : " بينما كان طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره يمر في الحديقة العامة، فإذا بضابط فرنسي يطلق عليه النار فيرديه قتيلاً ... ".
ب - الانعكاسات الإيجابية :
* الإنتفاضة عبرت للمستعمر عن وعي الشعب بمطالبه الوطنية و أظهرت للفرنسيين أنها تكتسي طابعا ثوريًا سياسيا.
* أنها ضاعفت من قلق فرنسا و توتر شؤونها الداخلية و شتتت جهودها بين تطهير وطنها من آثار الألمان و المحافظة على مستعمرتها.
* أنها أخرجت القضية الجزائرية إلى الساحة الدولية.
* الإنتفاضة دفعت الجزائريين إلى إعادة النظر في أسلوب التعامل مع الإستعمار، فقد بينت استحالة الوصول إلى الحقـوق بواسطة الطرق السلمية، فكان لا بد من الإحتكام للسلاح، و بالتالي فإن جذور ثورة نوفمبر 1954 كانت وثيقة الصلة بحوادث 08 ماي 1945.